فصل: الفصل الرابع والأربعون في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الفصل الثالث والأربعون في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم

من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم وليس في العرب حملة علم لا في العلوم الشرعية ولا في العلوم العقلية إلا في القليل النادر‏.‏ وإن كان منهم العربي في نسبه فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها عربي‏.‏ والسبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة وإنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله ونواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة بما تلقوة من صاحب الشرع وأصحابه‏.‏ والقوم يرمئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتآليف والتدوين ولا دفعوا إليه ولا دعتهم إليه الحاجة‏.‏ وجرى الأمر على ذلك زمن الصحاية والتابعين وكانوا يسموق المختصين بحمل ذلك‏.‏ ونقله القراء أي الذين يقرأون الكتاب وليسوا أميين لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عرباً فقيل لحملة القرآن يومئذ قراء إشارة إلى هذا‏.‏ فهم قراء لكتاب الله والسنة المأثورة عن الله لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه‏.‏ ومن الحديث الذي هو في غالب موارده تفسير له وشرح قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما‏:‏ كتاب الله وسنتي ‏"‏‏.‏ فلما بعد النقل من لدن دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية وتقييد الحديث مخافه ضياعه ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد وتعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح من الأسانيد وما دونه ثم كثر استخراج أحكام الوقائع من الكتاب والسنة وفسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية وصارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباط والاستخراج والتنظير والقياس واحتاجت إلى علوم أخرى هي وسائل لها‏:‏ من معرفة قوانين العربيه وقوانين ذلك الاستنباط والقياس والذب عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع والإلحاد فصارت هذه العلوم كلها علوماً ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع‏.‏ وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر وأن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية وبعد العرب عنها وعن سوقها‏.‏ والحضر لذلك العهد هم العجم أو من في معناهم من الموالي وأهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف لإنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النحو سيبويه والفارسي من بعده والزجاج من بعدهما وكلهم عجم في أنسابهم‏.‏ وإنما ربوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربى ومخالطة العرب وصيروه قوانين وفناً لمن بعدهم‏.‏ وكذا حملة الحديث الذين حفظوه على أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة والمربى لاتساع الفن بالعراق‏.‏ وكان علماء أصول الفقه كلهم عجماً كما يعرف وكذا حملة علم الكلام وكذا أكثر المفسرين‏.‏ ولم يقم بحفظ العلم وتدوييه إلا الأعاجم‏.‏ وظهر مصداق قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس ‏"‏‏.‏ وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها وخرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرياسة في الدولة العباسية وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم والنظر فيه فإنهم كانوا أهل الدولة وحاميتها وأولي سياستها مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع‏.‏ والرؤساء ابداً يستنكفون عن الصنائع والمهن وما يجر إليها ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين‏.‏ وما زالوا يرون لهم حق القيام به فإنه دينهم وعلومهم ولا يحتقرون حملتها كل الاحتقار‏.‏ حتى إذا خرج الأمر من العرب جملة وصار للعجم صارت العلوم الشرعية غريبة النسبة عند أهل الملك بما هم عليه من البعد عن نسبتها وامتهن حملتها بما يرون أنهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني ولا يجدي عليهم في الملك والسياسة كما ذكرناه في فصل المراتب الدينية‏.‏ فهذا الذي قررناه هو السبب في أن حملة الشريعة أو عامتهم من العجم‏.‏ وأما العلوم العقلية أيضاً فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه‏.‏ واستقر العلم كله صناعة فاختصت بالعجم وتركها العرب وانصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلا المعربون من العجم شأن الصنائع كما قلناه أولاً‏.‏ فلم يزل ذلك في الأمصار الإسلامية ما دامت الحضارة في العجم وببلادهم من العراق وخراسان وما وراء النهر‏.‏ فلما خربت تلك الأمصار وذهبت منها الحضارة التي هي سر الله في حصول العلم والصنائع ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة‏.‏ واختص العلم ألامصار الموفورة الحضارة‏.‏ ولا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم العالم وإيوان الإسلام وينبوع العلم والصنائع‏.‏ وبقي بعض الحضارة فيما وراء النهر لما هناك من حضارة بالدولة التي فيها فلهم بذلك حصة من العلوم والصنائع لا تنكر‏.‏ وقد دلنا إلى ذلك كلام بعض علمائهم في تآليف وصلت إلينا إلى هذه البلاد وهو سعد الدين التفتازاني‏.‏ وأما غيره من العجم فلم نر لهم من بعد الإمام ابن الخطيب ونصير الدين طوسي كلاماً يعول على نهايته في الإصابة‏.‏ فاعتبر ذلك وتأمله تر عجباً في أحوال الخليقة‏.‏ والله يخلق ما يشاء لا إله إلا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير

  الفصل الرابع والأربعون في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها

في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي والسر في ذلك أن مباحث العلوم كلها إنما هي في المعاني الذهنية والخيالية من بين العلوم الشرعية التى هي أكثر مباحثها في الألفاظ وموادها من الأحكام المتلقاة من الكتاب والسنة ولغاتها المؤدية لها وهي كلها في الخيال وبين العلوم العقلية وهي في الذهن‏.‏ واللغات إنما هي ترجمان عما في الضمائر من تلك المعاني يؤديها بعض إلى بعض بالمشافهة في المناظرة والتعليم وممارسة البحث بالعلوم لتحصيل ملكتها بطول المران على ذلك‏.‏ والألفاظ واللغات وسائط وحجب بين الضمائر وروابط وختام عن المعاني‏.‏ ولا بد في اقتناص تلك المعاني من ألفاظها لمعرفة دلالاتها اللغوية عليها وجودة الملكة لناظر فيها وإلا فيعتاص عليه اقتناصها زيادة على ما يكون في مباحثها الذهنية من الاعتياص‏.‏ وإذا كانت ملكته في تلك الدلالات راسخة بحيث يتبادر المعاني إلى ذهنه من تلك الألفاظ عند استعمالها شأن البديهي والجبلي زال ذاك الحجاب بالجملة بين المعاني والفهم أو خف ولم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث فقط‏.‏ هذا كله إذا كان التعليم تلقيناً وبالخطاب والعبارة‏.‏ وأما إن احتاج المتعلم إلى الدراسة والتقييد بالكتاب ومشافهة الرسوم الخطية من الدواوين بمسائل العلوم كان هنالك حجاب آخر بين الخط ورسومه في الكتاب وبين الألفاظ المقولة في الخيال‏.‏ لأن رسوم الكتابة لها دلالة خاصة على الألفاظ المقولة‏.‏ وما لم تعرف تلك الدلالة تعذرت معرفة العبارة وإن عرف بملكة قاصرة كانت معرفتها أيضاً قاصرة ويزداد على الناظر والمتعلم بذلك حجاب آخر بينه وبين مطلوبه من تحصيل ملكات العلوم أعوص من الحجاب الأول‏.‏ وإذا كانت ملكته في الدلالة اللفظية والخطية مستحكمه ارتفعت الحجب بينه وبين المعاني‏.‏ وصار إنما يعاني فهم مباحثها فقط‏.‏ هذا شأن المعاني مع الألفاظ والخط بالنسبة إلى كل لغة‏.‏ والمتعلمون لذلك في الصغر أشد استحكاماً لملكاتهم‏.‏ ثم إن الملة الإسلامية لما اتسع ملكها واندرجت الأمم في طيها ودرست علوم الأولين بنبوتها وكتابها وكانت أمية النزعة والشعار فأخذ الملك والعزة وسخرية الأمم لهم بالحضارة والتهذيب وصيروا علومهم الشرعية صناعة بعد أن كانت نقلاً فحدثت فيهم الملكات وكثرت الدواوين والتآليف وتشوفوا إلى علوم الأمم‏.‏ فنقلوها بالترجمة إلى علومهم وأفرغوها في قالب أنظارهم وجردوها من تلك اللغات الأعجمية إلى لسانهم وأربوا فيها على مداركهم وبقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسياً منسياً وطللاً مهجوراً وهباء منثوراً‏.‏ وأصبحت العلوم كلها بلغة العرب ودواوينها المسطرة بخطهم واحتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية والخطية في لسانهم دون ما سواه من الألسن لدروسها وذهاب العناية بها‏.‏ وقد تقدم لنا أن اللغة ملكة في اللسان وكذا الخط صناعة ملكتها في اليد قإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة صار مقصراً في اللغة العربية لما قدمناه من أن الملكة إذا تقدمت في صناعة بمحل فقل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعه أخرى وهو ظاهر‏.‏ وإذا كان مقصراً في اللغة العربية ودلالاتها اللفظية والخطية اعتاص عليه فهم المعاني منها كما مر‏.‏ إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة لم تستحكم حين انتقل منها إلى العربية كأصاغر أبناء العجم الذين يربون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم فتكون اللغة العربية كأنها السابقة لهم ولا ايكون عندهم تقصير في فهم المعاني من العربية‏.‏ وكذا أيضاً شأن من سبق له تعلم الخط الأعجمي قبل العربي‏.‏ ولهذا نجد الكثير من علماء الأعاجم في دروسهم ومجالس تعليمهم يعدلون عن نقل التقاسير من الكتب إلى قراءتها ظاهراً يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب ليقرب عليهم تناول المعاني‏.‏ وصاحب الملكة في العبارة والخط مستغن عن ذلك بتمام ملكته وإنه صار له فهم الأقوال من الخط والمعاني من الأقوال كالجبلة الراسخة وارتفعت الححب بينه وبين المعاني‏.‏ وربما يكون الدؤوب على التعليم والمران على اللغة وممارسة الخط يفضيان بصاحبهما إلى تمكن الملكة كما نجده في الكثير من علماء الأعاجم إلا أنه في النادر‏.‏ وإذا قرن بنظيره من علماء العرب وأهل طبقته منهم كان باع العربي أطول وملكته أقوى لما عند المستعجم من الفتور بالعجمه السابقة التي يؤثر القصور بالضرورة ولا يعترض ذلك بما تقدم بأن علماء الإسلام أكثرهم العجم لأن المراد بالعجم هنالك عجم النسب لتداول الحضارة فيهم التي قررنا أنها سبب لانتحال الصنائع والملكات ومن جملتها العلوم‏.‏ وأما عجمة اللغة فليست من ذلك وهي المرادة هنا‏.‏ ولا يعترض ذلك أيضاً مما كان لليونانيين في علومهم من رسوخ القدم فإنهم إنما تعلموها من لغتهم السابقة لهم وخطهم المتعارف بينهم‏.‏ والأعجمي المتعلم للعلم في الملة الإسلامية يأخذ العلم بغير لسانه الذي سبق إليه ومن غير خطه الذي يعرف ملكته‏.‏ فلهذا يكون له ذلك حجاباً كما قلناه‏.‏ وهذا عام في جميح أصناف أهل اللسان الأعجمي من الفرس والروم والترك والبربر والفرنج وسائر من ليس من أهل اللسان العربي‏.‏ وفي ذلك آيات للمتوسمين‏.‏

  الفصل الخامس والأربعون في علوم اللسان العربي

أركانه أربعة‏:‏ وهي اللغة والنحو والبيان والأدب‏.‏ ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة وهي بلغة العرب ونقلتها من الصحابة والتابعين عرب وشرح مشكلاتها من لغتهم فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة‏.‏ وتتفاوت قي التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام حسبما يتبين في الكلام عليها فناً فناً‏.‏ والذي يتحصل أن الأهم المقدم منها هو النحو إذ به يتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر ولولاه لجهل أصل الإفادة‏.‏ وكان من حق علم اللغة التقدم لولا ان أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغير بخلاف الإعراب الدال على الإسناد والمسند والمسند إليه فإنه تغير بالجملة ولم يبق له أثر‏.‏ فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة وليست كذلك اللغة‏.‏ واللة سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏ علم النحو اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده‏.‏ وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان‏.‏ وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم‏.‏ وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني‏.‏ مثل الحركات التي تعين الفاعل من المفعول من المجرور أعني المضاف ومثل الحروف التي تفضي بالأفعال أي الحركات إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى‏.‏ وليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب‏.‏ وأما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لا بد له من ألفاظ تخصه بالدلالة ولذلك نجد كلام العجم في مخاطباتهم أطول مما نقدره بكلام العرب‏.‏ وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصاراً ‏"‏‏.‏ فصار للحروف في لغتهم والحركات والهيآت أي الأوضاع اعتبار في الدلالة على المقصود غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها‏.‏ إنما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا‏.‏ فلما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم والدول وخالطوا العجم تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمتعربين من العجم‏.‏ والسمع أبو الملكات اللسانية ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع‏.‏ وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأساً ويطول العهد بها فينغلق القرآن والحديث على المفهوم فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبه الكليات والقواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويلحقون الأشباه بالأشباه‏.‏ مثل أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب والمبتدأ مرفوع‏.‏ ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات فاصطلحوا على تسميته إعراباً وتسمية الموجب لذلك التغير عاملاً وأمثال ذلك‏.‏ وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم فقيدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو‏.‏ وأول من كتب فيها أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة ويقال بإشارة علي رضي الله عنه لأنه رأى تغير الملكة فأشار عليه بحفظها ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد أحوج ما كان الناس إليها لذهاب تلك الملكة من العرب‏.‏ فهذب الصناعة وكمل أبوابها‏.‏ وأخذها عنه سيبويه فكمل تفاريعها واستكثر من أدلتها وشواهدها ووضع فيها كتابه المشهور الذي صار إماماً لكل ما كتب فيها من بعده‏.‏ ثم وضع أبو علي الفارسي وأبو القاسم الزجاج كتباً مختصرة للمتعلمين يحذون فيها حذو الإمام في كتابه‏.‏ ثم طال الكلام في هذه الصناعة وحدث الخلاف بين أهلها في الكوفة والبصرة‏:‏ المصرين القديمين للعرب‏.‏ وكثرت الأدلة والحجاج بينهم وتباينت الطرق في التعليم وكثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القرآن باختلافهم في تلك القواعد وطال ذلك على المتعلمين‏.‏ وجاء المتأخرون بمذاهبهم في الاختصار فاختصروا كثيراً من ذلك الطول مع استيعابهم لجميع ما نقل كما فعله ابن مالك في كتاب التسهيل وأمثاله أو اقتصارهم على المبادىء للمتعلمين كما فعله الزمخشري في المفصل وابن الحاجب في المقدمة له‏.‏ وربما نظموا ذلك نظماً مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى والصغرى وابن معطي في الأرجوزة الألفية‏.‏ وبالجملة فالتآليف في هذا الفن أكثر من أن تحصى أو يحاط بها وطرق التعليم فيها مختلفة فطريقة المتقدمين مغايرة لطريقة المتأخرين‏.‏ والكوفيون والبصريون والبغداديون والأندلسيون مختلفة طرقهم كذلك‏.‏ وقد كادت هذه الصناعة أن تؤذن بالذهاب لما رأينا من النقص في سائر العلوم والصنائع بتناقص العمران ووصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدين ابن هشام من علمائها استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصلة‏.‏ وتكلم على الحروف والمفردات والجمل وحذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابها وسماه بالمغني في الإعراب‏.‏ وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلها وضبطها بأبواب وفصول وقواعد انتظمت سائرها فوقفنا منه على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة ووفور بضاعته منها وكأنه ينحو في طريقته منحى نحاة أهل الموصل الذين أقتفوا آثر ابن جني واتبعوا مصطلح تعليمه فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته واطلاعه‏.‏ والله يزيد في الخلق ما يشاء هذا العلم هو بيان الموضوعات اللغوية‏.‏ وذلك أنه لما فسدت ملكة اللسان العربي في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب واستنبطت القوانين لحفظها كما قلناه‏.‏ ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم حتى تأذى الفساد إلى موضوعات الألفاظ فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم ميلاً مع هجنة المتعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب والتدوين خشية الدروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك وأملوا فيه الدواوين‏.‏ وكان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي‏.‏ ألف فيها كتاب العين فحصر فيه مركبات حروف المعجم كلها من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي وهو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي‏.‏ وتأتى له حصر ذلك بوجوه عديدة حاصرة وذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة وعشرين وهو دون نهاية حروف المعجم بواحد‏.‏ لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد من السبعة والعشرين فتكون سبعة وعشرين كلمة ثنائية‏.‏ ثم يؤخذ الثاني مع الستة والعشرين كذلك‏.‏ ثم الثالث والرابع‏.‏ ثم يؤخذ السابع والعشرون مع الثامن والعشرين فيكون واحداً فتكون كلها أعداداً على توالي الأعداد من واحد إلى سبعة وعشرين فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب وهو أن تجمع الأول مع الاخير وتضرب المجموع في نصف العدة‏.‏ ثم تضاعف لأجل قلب الثنائي لأن التقديم والتأخير بين الحروف معتبر في التركيب فيكون الخارج جملة الثنائيات‏.‏ وتخرج الثلاثيات من ضرب عدد الثنائيات فيما يجتمع من واحد إلى ستة وعشرين على توالي العدد لأن كل ثنائية تزيد عليها حرفاً فتكون ثلاثية‏.‏ فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية وهي ستة وعشرون حرفاً بعد الثنائية فتجمع من واحد إلى ستة وعشرين على توالي العدد ويضرب فيه جملة الثنائيات ثم تضرب الخارج في ستة جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية فيخرج مجموع تركيبها من حروف المعجم‏.‏ وكذلك في الرباعي والخماسي‏.‏ فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه ورتب أبوابه على حروف المعجم بالترتيب المتعارف‏.‏ واعتمد فيه ترتيب المخارج فبدأ بحروف الحلق ثم ما بعده من حروف الحنك ثم الأضراس ثم الشفة وجعل حروف العلة آخراً وهي الحروف الهوائية‏.‏ وبدأ من حروف الحلق بالعين لأنه الأقصى منها‏.‏ فلذلك سمي كتابه بالعين لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا وهو تسميته بأول ما يقع فيه من الكلمات والألفاظ‏.‏ ثم بين المهمل منها من المستعمل وكان المهمل في الرباعي والخماسي أكثر لقلة استعمال العرب له لثقله ولحق به الثنائي لقلة دورانه وكان الاستعمال في الثلاثي أغلب فكانت أوضاعه أكثر لدورانه‏.‏ وضمن الخليل ذلك كله في كتاب العين واستوعبه أحسن استيعاب وأوفاه‏.‏ وجاء أبو بكر الزبيدي وكتب لهشام المؤيد بالأندلس في المائه الرابعة فاختصره مع المحافظة على الاستيعاب وحفف منه المهمل كله وكثيراً من شواهد المستعمل ولخصه للحفظ أحسن تلحيص‏.‏ وألف الجوهري من المشارقة كتاب الصحاح على الترتيب المتعارف لحروف المعجم فجعل البداءة منها بالهمزة وجعل الترجمة بالحروف على الحرف اآاخير من الكلمة لاضطرار الناس في الأكثر إلى أواخر الكلم فيجعل ذلك باباً‏.‏ ثم يأتي بالحروف أول الكلمة على ترتيب حروف المعجم أيضاً ويترجم عليها بالفصول إلى آخرها‏.‏ وحصر اللغة اقتداءً بحصر الخليل‏.‏ ثم ألف فيها من الأندلسيين ابن سيده من أهل دانية في دوله علي بن مجاهد كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب وعلى نحو ترتيب كتاب العين‏.‏ وزاد فيه التعرض لاشتقاقات الكلم وتصاريفها فجاء من أحسن الدواوين‏.‏ ولخصه محمد بن أبي الحسين صاحب المستنصر من ملوك الدولة الحفصية بتونس‏.‏ وقلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصحاح في اعتبار أواخر الكلم وبناء التراجم عليها فكانا توأمي رحم وسليلي أبوة‏.‏ هذه أصول كتب اللغة فيما علمناه‏.‏ وهناك مختصرات أخرى مختصة بصنف من الكلم ومستوعبة لبعض الأبواب أو لكلها إلا أن وجه الحصر فيها خفي ووجه الحصر في تلك جلي من قبل التراكيب كما رأيت‏.‏ ومن الكتب الموضوعة أيضاً في اللغة كتاب الزمخشري في المجاز وسماه أساس البلاغة بين فيه كل ما تجوزت به العرب من الألفاظ فيما تجوزت به من المدلولات وهو كتاب شريف الإفادة‏.‏ ثم لما كانت العرب تضع الشيء لمعنى على العموم ثم تستعمل في الأمور الخاصة ألفاظاً أخرى خاصة‏.‏ بها فرق ذلك عندنا بين الوضع والاستعمال واحتاج الناس إلى فقه في اللغة عزيز المأخذ كما وضع الأبيض بالوضع العام لكل ما فيه بياض ثم اختص ما فيه بياض من الخيل بالأشهب ومن الإنسان بالأزهر ومن الغنم بالأملح حتى صار استعمال الأبيض في هذه كلها لحناً وخروجاً عن لسان العرب‏.‏ واختص بالتأليف في هذا المنحى الثعالبي وأفرده في كتاب له سماه فقه اللغة وهو من آكد ما يأخذ به اللغوي نفسه أن يحرف استعمال العرب عن مواضعه‏.‏ فليس معرفة الوضع الأول بكاف في التركيب حتى يشهد له استعمال العرب لذلك‏.‏ وأكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فني نظمه ونثره حذراً من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللغوية في مفرداتها وتراكيبها وهو أشر من اللحن في الإعراب وافحش‏.‏ وكذلك آلف بعض المتأخرين في الألفاظ المشتركة وتكفل بحصرها وإن لم يبلغ إلى النهاية في ذلك فهو مستوعب للأكثر‏.‏ وأما المختصرات الموجودة في هذا الفن المخصوصة بالمتداول من اللغة الكثير الاستعمال تسهيلاً لحفظها على الطالب فكثيرة مثل الألفاظ لابن السكيت والفصيح لثعلب وغيرهما‏.‏ وبعضها أقل لغة من بعض لاختلاف نظرهم في الأهم على الطالب للحفظ‏.‏ والله الخلاق العليم لا رب سواه‏.‏ فصل‏:‏ واعلم أن النقل الذي تثبت به اللغة إنما هو النقل عن العرب أنهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني لا تقل إنهم وضعوها لأنه متعذر وبعيد ولم يعرف أحد منهم‏.‏ وكذلك لا تثبت اللغات بقياس ما لم نعلم استعماله على ما عرف استعماله في ماء العنب باعتبار الإسكار الجامع‏.‏ لأن شهادة الاعتبار في باب القياس إنما يدركها الشرع الدال على صحة القياس من أصله‏.‏ وليس لنا مثله في اللغة إلا العقل وهو محكم وعلى هذا جمهور الأئمة‏.‏ وإن مال إلى القياس فيها القاضي وابن سريج وغيرهم‏.‏ لكن القول بنفيه أرجح‏.‏ ولا تتوهمن أن إثبات اللغة في باب الحدود اللفظية لأن الحد راجع إلى المعاني ببيان أن مدلول اللفظ المجهول الخفي هو مدلول الواضح المشهور واللغة إثبات أن اللفظ كذا لمعنى كذا والفرق في غاية ظهور‏.‏ هذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية واللغة وهو من العلوم اللسانية أنه متعلق بالألفاظ وما تفيده‏.‏ ويقصد بها الدلالة عليه من المعاني‏.‏ وذلك أن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي‏:‏ إما تصور مفردات تسند ويسند إليها ويفضي بعضها إلى بعض والدلالة على هذه هي المفرادت من الأسماء والأفعال والحروف وأما تمييز المسندات من المسند إليها والأزمنة وبدل عليها بتغير إدركات وهو الإعراب وأبنية الكلمات‏.‏ وهذه كلها هي صناعة النحو‏.‏ ويبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات المحتاجة للدلالة أحوال المتخاطبين أو الفاعلين وما يقتضيه حال الفعل وهو محتاج إلى الدلالة عليه لأنه من تمام الإفادة وإذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة من كلامه‏.‏ وإذا لم يشتمل على شيء منها فليس من جنس كلام العرب فإن كلامهم واسع ولكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب والإبانة‏.‏ ألا ترى أن قولهم‏:‏ ‏"‏ زيد جاءني ‏"‏ مغاير لقولهم ‏"‏ جاءني زيد ‏"‏ من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم‏.‏ فمن قال‏:‏ جاءني زيد أفاد أن اهتمامه بالمجيء قبل الشخص المسند إليه ومن قال‏:‏ زيد جاءني أفاد أن اهتمامه بالشخص قبل المجيء المسند‏.‏ وكذا التعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من موصول أو مبهم أو معرفة‏.‏ وكذا تأكيد الإسناد على الجملة كقولهم‏:‏ زيد قائم وإن زيداً قائم وإن زيداً لقائم متغايرة كلها في الدلالة وإن استوت من طريق الإعراب فإن الأول العاري عن التأكيد إنما يفيد الخالي الذهن والثاني المؤكد ب إن يفيد المتردد والثالث يفيد المنكر فهي مختلفة‏.‏ وكذلك تقول‏:‏ جاءني الرجل ثم تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التنكير تعظيمه وأنه رجل لا يعادله أحد من الرجال‏.‏ ثم الجملة الإسنادية تكون خبرية وهي التي لها خارج تطابقة أولاً وإنشائية وهي التي لا خارج لها كالطلب وأنواعه‏.‏ تم قد يتعين ترك العاطف بين الجملتين إذ كان للثانية محل من الإعراب‏:‏ فينزل بذلك منزلة التابع المفرد نعتاً أو توكيداً أو بدلاً بلا عطف أو يتعين العطف إذا لم يكن للثانية محل من الإعراب‏.‏ ثم يقتضي المحل الإطناب أو الإيجاز فيورد الكلام عليهما‏.‏ ثم قد يدل باللفط ولا يراد منطوقه ويراد لازمه إن كان مفرداً كما تقول‏:‏ زيد أسد فلا تريد حقيقة الأسد لمنطوقه وإنما تريد شجاعته اللازمة وتسندها إلى زيد وتسمى هذه استعارة‏.‏ وقد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه كما تقول‏:‏ زيد كثير رماد القدور وتريد به ما لزم ذلك عنه من الجود وقرى الضيف لأن كثره الرماد ناشئة عنهما فهي دالة عليهما‏.‏ وهذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد والمركب وإنما هي هيئات وأحوال للواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال وهيآت في الألفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه فاشتمل هذا العلم المسمى بالبيان على البحث عن هذه الدلالات التي للهيآت والأحوال والمقامات وجعل على ثلاثة أصنات‏:‏ الصنف الأول يبحث فيه عن هذه الهيأت والأحوال التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال ويسمى علم البلاغة والصنف الثاني يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي وملزومه وهي الاستعارة والكناية كما قلناه ويسمى علم البيان‏.‏ وألحقوا بهما صنفاً آخر وهو النظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التنميق‏:‏ إما بسجع يفصله أو تجنيس يشابه بين ألفاظه أو ترصيع يقطع أوزانه أو تورية عن المعنى المقصود لإيهام معنى أخفى منه لاشتراك اللفظ بينهما أو طباق بالتقابل بين الأضداد وأمثال ذلك ويسمى عندهم علم البديع‏.‏ وأطلق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم البيان وهو اسم الصنف الثاني لأن الأقدمين أول ما تكلموا فيه‏.‏ ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى وكتب فيها جعفر بن يحيى والجاحظ وقدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها‏.‏ ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئاً فشيئاً إلى أن مخض السكاكي زبدته وهذب مسائله ورتب أبوابه على نحو ما ذكرناه آنفاً من الترتيب وألف كتابه المسمى بالمفتاح في النحو والتصريف والبيان فجعل هذا الفن من بعض أجزائه‏.‏ وأخذه المتأخرون من كتابه ولخصوا منه أمهات هي المتداولة لهذا العهد كما فعله السكاكي في كتاب التبيان وابن مالك في كتاب المصباح وجلال الدين القزويني في كتاب الإيضاح والتلخيص وهو أصغر حجماً من الإيضاح والعناية به لهذا العهد عند أهل المشرق في الشرح والتعليم منه أكثر من غيره‏.‏ وبالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة وسببه والله أعلم أنه كمالي في العلوم اللسانية والصنائع الكمالية توجد في وفور العمران‏.‏ والمشرق أوفر عمراناً من المغرب كما ذكرناه‏.‏ أو نقول لعناية العجم وهم معظم أهل المشرق كتفسير الزمخشري وهو كله مبني على هذا الفن وهو أصله‏.‏ وإنما اختص بأهل المغرب من أصنافه علم البديع خاصة وجعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية وفرعوا له ألقاباً وعددوا أبواباً ونوعوا أنواعاً‏.‏ وزعموا أنهم أحصوها من لسان العرب وإنما حملهم على ذلك الولوع بتزيين الألفاظ وأن علم البديع سهل المأخذ‏.‏ وصعبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقة أنظارهما وغموض معانيهما فتجافوا عنهما‏.‏ وممن ألف في البديع من أهل إفريقية ابن رشيق وكتاب العمدة له مشهور‏.‏ وجرى كثير من أهل إفريقية والأندلس على منحاه‏.‏ واعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من القرآن لأن إعجازه في وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة ومفهومة وهي أعلى مراتب الكمال مع الكلام فيما يختص بالألفاظ في انتقائها وجودة رصفها وتركيبها وهذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن إدراكه‏.‏ وإنما يدرك بعض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه‏.‏ فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوه من مبلغه أعلى مقاماً في ذلك لأنهم فرسان الكلام وجهابذته والذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون وأصحه‏.‏ وأحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون وأكثر تفاسير المتقدمين غفل منه حتى ظهر جار الله الزمخشري ووضع كتابه في التفسير وتتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن بما يبدي البعض من إعجازه فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة‏.‏ ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة مع وفور بضاعته من البلاغة‏.‏ فمن أحكم عقائد السنة وشارك في هذا الفن بعض المشاركة حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه أو يعلم أنها بدعة فيعرض عنها ولا تضره في معتقده فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب للظفر بشيء من الإعجاز مع السلامة من البدع والأهواء‏.‏ والله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل‏.‏